وابنته أحب النساء إليه
تزوج النبي r ابنته، وكانت أحب أزواجه إليه، وهذا أمر لم يشركه فيه أحد من الصحابة إلا عمر، ولكن لم تكن حفصة ابنته بمنزلة عائشة؛ بل حفصة طلقها ثم راجعها. وعائشة كان يقسم لها ليلتين لما وهبتها سودة بإذنه r()، فمصاهرة أبي بكر للنبي r كانت على وجه لا يشاركه فيها أحد. وقد صح عن الصادق المصدوق أنه قال: «فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام»(). وفي الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي النساء أحب إليك؟ «قال: عائشة»() وعائشة صحبته في آخر النبوة وكمال الدين فحصل لها من العلم والإيمان ما لم يحصل لمن لم يدرك إلا أول النبوة؛ فإن الأمة انتفعت بها أكثر مما انتفعت بغيرها، وبلغت من العلم والسنن ما لم يبلغه غيرها().
وأهل السنة مجمعون على تعظيم عائشة ومحبتها، وأن نساءه أمهات المؤمنين اللواتي مات عنهن كانت عائشة أحبهن إليه وأعظمهن حرمة عند المسلمين، وقد ثبت في الصحيح: «أن الناس كانوا يتحرون بهداياهم يوم عائشة() لما يعلمون من محبته إياها، حتى إن نساءه غرن من ذلك وأرسلن إليه فاطمة رضي الله عنها تقول له: نساؤك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة. فقال لفاطمة: أي بنية! أما تحبين ما أحب قالت: بلى. قال: فأحبي هذه» الحديث في الصحيحين()، وفي الصحيحين أيضًا أن النبي r قال: «يا عائشة هذا جبريل يقرأ عليك السلام، قالت: وعليه السلام ورحمة الله، ترى ما لا نرى»()، وكان في مرضه الذين مات فيه يقول: «أين أنا اليوم» استبطاء ليوم عائشة()، ثم استأذن نساءه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها فمرض فيه، وفي بيتها توفي بين سحرها ونحرها وفي حجرها وجمع بين ريقها وريقه()، وكانت رضي الله عنها مباركة على أمته حتى قال أسيد بن حضير لما أنزل الله آية التيمم بسببها: «ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر، ما نزل بك قط أمر تكرهينه إلا جعل الله فيه للمسلمين بركة»()، وقد كانت نزلت آية براءة قبل ذلك لما رماها أهل الإفك فبرأها الله من فوق سبع سموات، وجعلها من الصينات().
إيمان قرابته كلهم من خصائصه
أبوه آمن بالنبي r باتفاق الناس، وكذلك أمه آمنت بالنبي r وأولاده، وأولاد أولاده أبو قحافة كان بمكة شيخًا كبيرًا أسلم عام الفتح أتى به أبو بكر إلى النبي r ورأسه ولحيته كالثغامة. فقال النبي r: «لو أقررت الشيخ مكانه لأتيناه» إكرامًا لأبي بكر ().
وليس في الصحابة من أسلم أبوه وأمه وأولاده وأدركوا النبي r وأدركه أيضًا بنو أولاده إلا أبو بكر من جهة الرجال والنساء فمحمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي قحافة هؤلاء الأربعة كانوا في زمن النبي r مؤمنين، وعبد الله بن الزبير بن أسماء بنت أبي بكر كلهم أيضًا آمنوا بالنبي r وصحبوه، وأم الخير آمنت بالنبي r فهم أهل بيت إيمان ليس فيهم منافق، ولا يعرف هذا لغير بيت أبي بكر، وكان يقال: للإيمان بيوت وللنفاق بيوت. فبيوت أبي بكر من بيت الإيمان، وبنو النجار من بيوت الإيمان من الأنصار ()().
رعايته لقرابة رسول الله r
كان رضي الله عنه من أعظم المسلمين رعاية لحق قرابة رسول الله r وأهل بيته، فإن كمال محبته للنبي r أوجب سراية الحب لأهل بيته، إذ كانت رعاية أهل بيته مما أمر الله ورسوله به، وفي الصحيح أنه خطب أصحابه بغدير يدعى خما بين مكة والمدينة فقال: «اذكركم الله في أهل بيتي»(). وفي السنن أنه قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي» (). وكان الصديق رضي الله عنه يقول: ارقبوا محمدًا في أهل بيته»(). رواه البخاري وقال: «والله لقرابة رسول الله r أحب إلي أن أصل من قرابتي»(). وكذلك عمر رضي الله عنه فإنهما رضي الله عنهما مدة خلافتهما ما زالا مكرمين لعلي وسائر بني هاشم يقدمانهم على سائر الناس.
أما قوله تعالى: }قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى{(). ففي الصحيحين عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عنها، فقلت: أن لا تؤذوا محمدًا في قرابته. فقال ابن عباس: عجلت، إنه لم يكن بطن من قريش إلا لرسول الله r فيهم قرابة. فقال: لا أسألكم عليه أجرًا؛ لكن أن تصلوا القرابة التي بيني وبينكم ()، فهو سأل الناس الذين أرسل إليهم أولاً أن يصلوا رحمه فلا يعتدوا عليه حتى يبلغ رسالة ربه؛ لم يقل إلا المودة للقربى ولا الموالاة. ولا ريب أن محبة أهل البيت واجبة؛ لكن لم يثبت وجوبها بهذه الآية؛ بل بما تقدم من الحديثين().
فدك أزال الخلاف فيها بالنص
روى البخاري عن عروة، عن عائشة: أن فاطمة رضي الله عنها والعباس أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من فدك وسهمه من خيبر. فقال أبو بكر: «سمعت رسول الله r يقول: لا نورث ما تركنا صدقة»(). وكون النبي r: لا يورث ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة، وكل منهما دليل قطعي فلا يعارض ذلك بما يظن أنه عموم، وإن كان عمومًا فهو مخصوص... ولهذا لم يصر أحد من أزواج النبي r على طلب الميراث، ولا أصرًا العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئًا وأخبر بقول النبي r رجع عن طلبه، واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى علي فلم يغير شيئًا من ذلك، ولا قسم له تركة، وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال: «لا يقتسم ورثتي دينارًا ولا درهمًا ما تركت بعد مؤنة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة»(). وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي r قال: «لا نورث ما تركنا فهو صدقة» أخرجه البخاري عن جماعة منهم أبو هريرة ()، ورواه مسلم عنه وعن غيره() فإن الله صان الأنبياء عن أن يورثوا دنيًا؛ لئلا يكون ذلك شبهة لمن يقدح في نبوتهم بأنهم طلبوا الدنيا وورثوها لورثتهم. وأولئك القوم قد أعطاهم أبو بكر، وعمر من مال الله بقدر ما خلفه النبي r أضعافًا مضاعفة، ولو قدر أنها كانت ميراثًا -مع أن هذا باطل- فإنما أخذ منهم قرية ليست كبيرة ولا قرية عظيمة. والمال الذي خلفه الرسول لم ينتفع أبو بكر ولا عمر منه بشيء؛ بل سلمه عمر إلى علي والعباس رضي الله عنهم يليانه ويفعلان ما كان النبي r يفعله، وهذا مما يوجب انتفاء التهم عنهما؛ فإن أبا بكر وعمر لا تقوم حجة بأنهما تركا واجبًا، أو فعلا محرمًا أصلاً ().
المقدم في الشورى وأبو بكر
كان أبو بكر يسمر عند النبي r بعد العشاء ويتحدث معه في أمور المسلمين دون غيره من أصحابه ().
وأيضًا فكان النبي r إذا استشار أصحابه أول من يتكلم أبو بكر في الشورى، وربما تكلم غيره، وربما لم يتكلم غيره، فيعمل برأيه وحده في الأمور العظيمة، فإذا خالفه غيره اتباع رأيه دون رأي من يخالفه.
فالأول: أنه استشار أصحابه في أسارى بدر، فتكلم أبو بكر أولاً، فروى مسلم في صحيحه عن ابن عباس قال: «لما أسر الأسارى يوم بدر قال رسول الله r لأبي بكر، وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله هم بنو العم والعشيرة أرى أن تقبل منهم الفدية، فتكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم للإسلام. فقال رسول الله r ما ترى يا ابن الخطاب؟ قلت: لا والله ما أرى الذي رأى أبو بكر؛ ولكن أرى أن تمكنا فنضرب أعناقهم، فتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، ويمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه. وأشار ابن رواحة بتحريقهم. فاختلف أصحابه فمنهم من يقول الرأي ما رأى أبو بكر، ومنهم من يقول: الرأي ما رأى عمر، ومنهم من يقول: الرأي ما رأى ابن رواحة. قال: فهوى رسول الله r ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت وذكر تمام الحديث»().
وأما الثاني: ففي يوم الحديبية لما جاءه جاسوسه الخزاعي وأخبره أن قريشًا قد جمعوا له الأحابيش -وهم الجماعة المستعجمة من قبائل، والتحبش التجمع- وأنهم مقاتلوه وصادوه عن البيت استشار أصحابه أهل المشورة مطلقًا هل يميل إلى ذراري الأحابيش، أو ينطلق إلى مكة؟ قال أبو بكر: الله ورسوله أعلم يا نبي الله إنما جئنا معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه. قال النبي r: «فروحوا إذن» والحديث معلوم عند أهل العلم أهل التفسير والمغازي والسير والفقه، والحديث. رواه البخاري ()، ورواه أحمد في مسنده ().
ثم إنه لما تكلم عروة بن مسعود الثقفي وهو من سادات ثقيف وحلفاء قريش مع النبي r وأخذ يقول عن أصحابه، «إنهم أشواب» أي أخلاط. وفي المسند «أوباش يفرون ويدعوك» قال له الصديق: امصص بظر اللات، أنحن نفر، وندعه؟!
ثم لما صالح النبي r قريشًا كان ظاهر الصلح فيه غضاضة وضيم على المسلمين، وفعله النبي r طاعة لله وثقة بوعده له وأن الله سينصره عليهم، واغتاض من ذلك جمهور الناس وعز عليهم حتى على مثل عمر، وعلي، وسهل بن حنيف... ففي الصحيحين عن أبي وائل قال: «قام سهل بن حنيف يوم صفين، فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، وفي لفظ: اتهموا رأيكم على دينكم، لقد كنا مع رسول الله r يوم الحديبية ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي كان بين رسول الله r وبين المشركين، فجاء عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم، فقال: يا ابن الخطاب: إني رسول الله، ولن يضيعني الله أبدًا. قال: فانطلق عمر فلم يصبر متغيظًا فأتى أبا بكر فقال: يا أبا بكر: ألسنا على حق وهم على باطل؟ قال: بلى. قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم. فقال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبدًا. قال: فنزل القرآن على رسول الله r بالفتح، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال: نعم. فطابت نفس عمر ورجع().
وتاب الله على الذين عارضوا ذلك رضي الله عنهم.
وهذا من أبين الأمور دلالة على موافقته للنبي r ومناسبته له واختصاصه به قولاً وعملاً وعلمًا وحالاً إذ كان قوله من جنس قوله، وعمله من جنس عمله، وفي المواطن التي ظهر فيها تقدمه على غيره في ذلك().
مشاورة النبي r لأبي بكر،
وعمر فيما لم يكن فيه وحي خاص
الأمور العامة الكلية التي تعم المسلمين إذا لم يكن فيها وحي خاص كان يشاور فيها أبا بكر وعمر وإن دخل غيرهما في الشورى؛ لكن هما الأصل في الشورى. وكان عمر تارة ينزل القرآن بموافقته فيما يراه، وتارة يتبين له الحق في خلاف ما رآه فيرجع عنه. وأما أبو بكر فلم يعرف أنه أنكر عليه شيئًا، ولا كان أيضًا يتقدم في شيء اللهم إلا تنازع هو وعمر فيم يولي من بني تميم ().
وشبه كلا منهما بنبيين
لما استشار أبا بكر وأشار بالفداء، واستشار عمر فأشار بالقتل (). قال r: «سأخبركم عن صاحبيكم: مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم قال: }فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ{() ومثل عيسى إذ قال: }إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{(). ومثلك يا عمر مثل نوح إذ قال: }رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا{(). أو مثل موسى إذ قال: }رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ{() ولم يعب واحدًا منهما بما أشار عليه به؛ بل مدحه وشبهه بالأنبياء؛ فشبه أبا بكر بإبراهيم وعيسى في لينه في الله، وشبه عمر بنوح وموسى في شدته في الله ()().
أبو بكر من أفصح الناس وأخطبهم
ليست الفصاحة التشدق بالكلام، ولا سجع الكلام، ولا كان في خطباء العرب من الصحابة وغيرهم تكلف الأسجاع، ولا تكلف التحسين الذي يعود إلى مجرد اللفظ الذي سمي «علم البديع» كما يفعله المتأخرون من أصحاب الخطب والرسائل والشعر، وإنما البلاغة المأمور بها في مثل قوله تعالى: }وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا{() هي «علم المعاني والبيان» فيجمع صاحبها بين تكميل المعاني المقصود وبين تبيينها بأحسن وجه ().
وأكثر الخطب التي ينقلها صاحب «نهج البلاغة» كذب على عليّ، وعلي أجل وأعلا قدرًا من أن يتكلم بذلك الكلام؛ ولكن هؤلاء وضعوا أكاذيب وظنوا أنها مدح، فلا هي صدق، ولا هي مدح.
لا ريب أن عليًا كان من أخطب الناس، وكان أبو بكر خطيبًا، وعمر خطيبًا، وكان ثابت بن قيس بن شماس خطيبًا معروفًا بأنه خطيب رسول الله r ... كما كان حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة شعراءه.
ولكن كان أبو بكر رضي الله عنه يخطب عن النبي r في حضوره وغيبته -فكان النبي r إذا خرج في المواسم- يدعو الناس إلى متابعة النبي r ونبي الله ساكت يقره على ما يقول، وكان كلامه تمهيدًا وتوطئة لما يبلغه الرسول، ومعونة له، لا تقدمًا بين يدي الله ورسوله، ولما قدم رسول الله r هو وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة قعد رسول الله r وقام أبو بكر يخاطب الناس عنه حتى ظن من لم يعرفهما أنه رسول الله إلى أن عرف بعد أن رسول الله r هو القاعد. وكان يخرج مع النبي r إلى الوفود فيخاطب الوفود، وكان يخاطبهم في مغيبه. ولما توفي رسول الله r كان هو الذي خطب الناس ().
خطبته بعد وفاة الرسول r
كان عمر رضي الله عنه من أخطب الناس، وأبو بكر أخطب منه يعرف له عمر بذلك، وهو الذي خطب المسلمين وكشف لهم عن موت النبي r، وثبت الإيمان في قلوب المسلمين حتى لا يضطرب الناس لعظيم المصيبة التي حلت بهم - ففي الصحيحين عن ابن عباس: «أنا أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس. فقال: اجلس يا عمر، فأبى أن يجلس، فأقبل الناس إليه وتركوا عمر. فقال أبو بكر: أما بعد فمن كان منكم يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، قال الله تعالى: }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{() قال: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله قد أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر فنقلها الناس كلهم فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها، فأخبرني المسيب أن عمر قال: والله ما هو إلا سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن رسول الله r قد مات»()().
خطبته يوم السقيفة
وخطب يوم السقيفة خطبة بليغة انتفع بها الحاضرون كلهم، حتى قال عمر: كنت زورت في نفسي مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد، فلما أردت أن أتكلم قال أبو بكر: على رسلك، فكرهت أن أغضبه، فتكلم أبو بكر وكان أحلم مني وأوقر، والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها().
خطبته بعد البيعة ()
قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، حدثني أنس بن مالك، قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة، وكان الغد جلس أبو بكر على المنبر إلى أن قال: فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: «أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أزيح علته إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ منه الحق إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا يشيع قوم قط الفاحشة إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله». وهذا إسناد صحيح ().
خطبته لما حصلت الردة
روى ابن عساكر من طريقين، عن شبابة بن سوار، حدثنا عيسى بن يزيد المدني، حدثني صالح بن كيسان، قال: لما كانت الردة قام أبو بكر في الناس فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى؛ إن الله بعث محمدًا r العلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث حبله، وخلق عهده، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرًا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرًا لشر عندهم، قد غيروا كتابهم وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله لا يعبدونه ولا يدعونه، فأجهدهم عيشًا، وأضلهم دينًا، في ظلف من الأرض مع ما فيه من السحاب فختمهم الله بمحمد، وجعله الأمة الوسطى، نصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه r، فركب منهم الشيطان مركبه الذي أنزله عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم }وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{(). إن من حولكم من العرب منعوا شتاهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم وإن رجعوا إليه أزهد منهم يومهم هذا، ولم يكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على ما قد تقدم من بركة نبيكم r، وقد وكلكم إلى المولى الكافي، الذي وجده ضالاً فهداه، وعائلاً فأغناه }وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا{ الآية()، والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده ويوفي لنا عهده، ويقتل من يقتل منا شهيدًا إلى الجنة، ويبقى من بقي منا خليفته وذريته في أرضه، قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له: }وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ{ الآية () ثم نزل ().
خطبته لما جمع الجموع لغزو
أهل الكتاب بالشام
لما اجتمع عند الصديق من الجيوش لغزو الشام ما أراد قام في الناس خطيبًا، فأثنى على الله بما هو أهله، ثم حث الناس على الجهاد، فقال: ألا لكل أمر جوامع فمن بلغها فهو حسبه، ومن عمل لله كفاه الله، عليكم بالجد والقصد، فإن القصد أبلغ، ألا إنه لا دين لمن لا إيمان له، ولا إيمان لمن لا خشية له، ولا عمل لمن لا نية له، ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله كما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به هي النجاة التي دل الله عليها إذ نجا بها من الخزي وألحق بها الكرامة().
أفضل الأمة بعد النبي r أبو بكر
فضل الله على النبيين بعضهم على بعض، وفضل الرسل على غيرهم، وأولو العزم أفضل من سائر الرسل، وكذلك فضل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار على غيرهم، وكلهم أولياء الله، وكلهم في الجنة، وقد رفع الله درجات بعضهم على بعض.
وأمهات الفضائل: العلم والدين والشجاعة، والكرم. وكل من كان أفضل من غيره من الأنبياء والصحابة وغيرهم فإنه أعلم. ورأس الفضائل العلم، قال الله تعالى: }قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ{().
والأحاديث الصحيحة مع الدلائل الكثيرة المتعددة توجب علمًا ضروريًا لمن علمها أن أبا بكر كان أحب الصحابة إلى النبي r، وأفضل عنده من عمر وعثمان وعلي وغيرهم، وكل من كان بسنة رسول الله r وأحواله أعلم كان بهذا أعرف، وإنما يستريب فيه من لا يعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة؛ فإما أن يصدق الكل، أو يتوقف في الكل فمن الأحاديث الصحيحة ما أخرج البخاري ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: «كنا نقول ورسول الله r حي: أفضل أمة النبي r بعده أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان»(). وروى الترمذي وغيره مرفوعًا عن علي رضي الله عنه، عن النبي r أنه قال: «هذان سيدا كهول أهل الجنة () من الأولين والآخرين لا تخبرهما يا علي»(). وفي الصحيح: أن جنازة عمر لما وضعت جاء علي بن أبي طالب يتخلل الصفوف، ثم قال: إني لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك، فإني كثيرًا ما كنت أسمع النبي r يقول: «دخلت أنا وأبو بكر، وعمر، وذهبت أنا وأبو بكر، وعمر»(). فهذا يبين ملازمتهما للنبي r في مدخله ومخرجه وذهابه. ولهذا قال مالك للرشيد لما قاله له: يا أبا عبد الله: أخبرني عن منزلة أبي بكر، وعمر من النبي r فقال: يا أمير المؤمنين منزلتهما منه في حياته كمنزلتهما منه بعد وفاته، قال: شفيتني يا مالك، شفيتني يا مالك.
وتواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر» وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقًا، وقد روى البخاري عنه في صحيحه من طريق الهمدانيين الذين هم أخص الناس بعلي، حتى كان يقول:
لو كنت بوابًا على باب جنة
لقلت لهمدان ادخلي بسلام
رواه البخاري من طريق سفيان الثوري وهو همداني، عن منذر وهو همداني، عن محمد بن الحنفية، قال: قلت لأبي: «أي الناس خير بعد رسول الله r ؟ قال: أبو بكر. قال: قلت ثم من؟ قال: ثم عمر»(). وهذا يقوله لابنه بينه وبينه وليس هو مما يجوز أن يقوله تقية، ويرويه عن أبيه خاصة، وقاله على المنبر، وروى عنه أنه سمع ذلك من النبي r ولا ريب أن عليًا لا يقطع بذلك إلا عن علم، وهو الذي يليق بعلي رضي الله عنه، فإنه من أعلم الصحابة بحق أبي بكر، وعمر، وأعرف بمكانهما من الإسلام، وحسن تأثيرهما في الدين، حتى أنه تمنى أن يلقى الله بمثل عمل عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقد سمى علي رضي الله عنه ابنيه: أبا بكر، وعمر.
وكان علي رضي الله عنه يقول: لا أوتي بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري(). وليس هذا من باب التواضع، بالمتواضع لا يجوز أن يتقدم بعقوبة من يفضله بقول الحق ولا يسميه مفتريًا.
والمتواتر عن ابن عباس أنه كان يفضل أبا بكر وعمر على علي،
وروى ابن بطة بسنده قال: سمعت ليث بن أبي سليم يقول: أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدًا. وقال شريك بن أبي نمر وقال له قائل: أيما أفضل أبو بكر أو علي؟ قال له: أبو بكر. فقال له السائل: تقول هذا وأنت من الشيعة؟ فقال: نعم، إنما الشيعي من يقول هذا، والله لقد رقى على هذه الأعواد فقال: ألا إن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، وعمر. أفكنا نرد عليه قوله؟ أفكنا نكذبه؟ والله ما كان كذابًا. وذكر القاضي عبد الجبار وعزاه إلى كتاب أبي القاسم البلخي ().
وقال الشيخ رحمه الله بعد أن ذكر آية }لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا{ ولكن ليس في هذا ما يدل على أن عليًا أو عثمان أو عمر أو غيرهم أفضل من أبي بكر، لأنهم لم يكنوا مع النبي r في هذه الحال. ولو كانوا معه لم يعلم أن حالهم سيكون أكمل من حال الصديق، بل معروف من حالهم دائمًا وحاله أنهم وقت المخاوف يكون الصديق أكمل منهم كلهم يقينًا وصبرًا، وعند وجود أسباب الريب يكون الصديق أعظم يقينًا وطمأنينة، وعندما يتأذى منه النبي r يكون الصديق أتبعهم لمرضاته وأبعدهم عما يؤذيه، هذا هو المعلوم لكن من استقرأ أحوالهم في محيا رسول الله r بعد وفاته ().
كل مدح وثناء في القرآن فهو أول داخل فيه
وفي الجملة كل ما في القرآن من خطاب (المؤمنين) و(المتقين) و(المحسنين) ومدحهم فهو أول من دخل في ذلك من هذه الأمة، وأفضل من دخل في ذلك من هذه الأمة، فعلم أنه أفضل الأمة، كما استفاض عن النبي r من غير وجه أنه قال: «خير القرون القرن الذي جئت فيه، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» ().
}وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{().
الأشهر عند أهل التفسير أن الذي جاء بالصدق محمد، والذي صدق به أبو بكر، وقال بهذا طائفة، وذكره الطبري بإسناده إلى علي(). وفي هذا حكاية ذكرها بعضهم عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر غلام أبي بكر الخلال: أن سائلاً سأله عن هذه الآية، فقال له أو بعض الحاضرين: نزلت في أبي بكر، فقال السائل: بل في علي، فقال أبو بكر بن جعفر: اقرأ ما بعدها }أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ{ إلى قوله }لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا{ الآية ()، فبهت السائل (). ولفظ الآية مطلق لا يختص بأبي بكر ولا بعلي، بل كل من دخل في عمومها دخل في حكمها، ولا ريب أن أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعليًا أحق هذه الأمة بالدخول فيها؛ لكنها لا تختص بهم؛ فما فيها من مدح فهو يشتمل على الصحابة فإنهم جاءوا بالصدق وصدقوا به، وهم من أعظم أهل الأرض دخولاً في ذلك.
}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ{() وأبو بكر رضي الله عنه قد ثبت أنه صديق بالأدلة الكثيرة فيجب أن تتناوله الآية قطعًا، وأن نكون معه؛ بل تناولها له أولى من تناولها لغيره من الصحابة، وهذه الآية نزلت في كعب بن مالك لما تخلف عن غزوة تبوك وصدق النبي r في أنه لم يكن له عذر، وتاب الله عليه ببركة الصدق ().
خصال اجتمعت فيه في يوم
ثبت في الصحيح أن النبي r قال لأصحابه: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ فقال أبو بكر: أنا. قال: فمن تبع منكم اليوم جنازة؟ فقال أبو بكر: أنا. قال: هل فيكم من عاد مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال: هل فيكم من تصدق بصدقة؟ فقال أبو بكر أنا. قال ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة»() وهذه الأربعة لم ينقل مثلها لعلي ولا غيره في يوم ().
وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة
روى أبو داود في سننه «أن النبي r قال لأبي بكر: أما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي»()، وأهل السنة عندهم أن أهل بدر كلهم في الجنة، وكذلك أمهات المؤمنين عائشة وغيرها، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير هم سادات أهل الجنة بعد الأنبياء ().
ويدعى من أبوابها كلها
في الصحيحين أن النبي r قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله() دعي من أبواب الجنة: يا عبد الله هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، [ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الصيام وباب الريان]() فقال أبو بكر: ما على هذا الذي يدعى من تلك الأبواب كلها من ضرورة () فهل يدعى أحد من تلك الأبواب كلها ()؟ قال نعم. وأرجو أن تكون منهم يا أبا بكر (). ولم يذكر هذا لغير أبي بكر رضي الله عنه»().
ثناء عائشة على أبيها
كانت عائشة رضي الله عنها من أخطب الناس، حتى قال الأحنف بن قيس: سمعت خطبة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي فما سمعت الكلام من مخلوق أفحم ولا أحسن من عائشة.
قالت عائشة رضي الله عنها في خطبتها() أبي، وما أبي، والله لا تعطوه الأيدي()، وذلك طود منيف()، وفرع مديد، هيهات كذبت الظنون، أنجح إذ أكديتم ()، وسبق إذ ونيتم () سبق الجواد إذا استولى على الأمد ()، فتى قريش ناشئًا، وكهفها كهلاً، يفك عانيها، ويريش مملقها ()، ويرأب شعبها ()، ويلم شعثها ()، حتى حليته قلوبها. ثم استشرى في الله فما برحت شكيمته في ذات الله تعالى ()، تشتد، حتى اتخذ بفنائه مسجدًا يحيي فيه ما أمات المبطلون. وكان رحمه الله غزير الدمعة، وقيذ الجوانح()، شجى النشيج()، فتتقصف عليه نساء مكة وولدانها() يسخرون منه ويستهزئون به }اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ{ فأكبرت ذلك رجالات من قريش فحنت إليه قسيها، وفوقت لها سهامها، وأنثلوه غرضًا ()، فما فلوا له صفاة ()، ولا قصفوا له قناة()، ومر على سيسائه() حتى إذا ضرب الدين بجرانه، وألقى بركه()، ورست أوتاده، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ومن كل فرقة أرسالاً وأشتاتًا، اختار الله لنبيه ما عنده. فلما قبض الله نبيه نصب الشيطان روقه()، ومد طنبه، ونصب حبائله ، فظن رجال أن قد تحققت أطماعهم، ولات حين الذي يرجون، وأنى والصديق بين أظهرهم، فقام حاسرًا مشمرًا، فجمع حاشيته، ورفع فطرته()، فرد نشر الإسلام على غره()، ولم شعثه بطبه، وأقام أوده بثقافه()، فوقذ النفاق بوطئته ()، فانتاش الدين بنعشه ()، فلما أراح الحق على أهله()، وقرر الرؤوس على كواهلها()، وحقن الدماء في أهبها()، أتته منيته، فسد ثلمه بنظيره في المرحمة، وشقيقه في السيرة والمعدلة، ذاك ابن الخطاب، لله أم حفلت له ودرت عليه() لقد أوحدت به()، فنفخ الكفرة وديخها()، وشرد الشرك شذر مذر()، وبعج الأرض وبخعها، فقاءت أكلها، ولفظت خبيئها() ترأمه ويصد عنها()، وتصدى له فيأباها، ثم ورع فيها وودعها كما صحبها، فأروني ما تريبون، وأي يومي أبي تنقمون، أيوم إقامته إذ عدل فيكم، أم يوم ظعنه إذ نظر لكم؟ أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم، وقد روى هذه القصة جعفر بن عون عن أبيه، عن عائشة، وهؤلاء رواة الصحيحين، وقد رواها أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه، وبعضهم رواها عن هشام ولم يذكر فيه عن عروة ().
قول عمر: ليلة ويوم من أبي بكر خير من عمر وآل عمر
روى الطلمنكي من حديث ميمون بن مهران، قال: كان أبو موسى الأشعري إذا خطب بالبصرة يوم الجمعة وكان واليها صلى على النبي r، ثم ثنى بعمر بن الخطاب يدعو له. فقام ضبة بن محصن العنزي فقال: أين أنت من ذكر صاحبه قبله تفضله عليه؟ - يعني أبا بكر رضي الله عنهما - ثم قعد. فلما فعل ذلك مرارًا أمحكه() أبو موسى فكتب أبو موسى إلى عمر رضي الله عنه: أن ضبة يطعن علينا ويفعل. فكتب عمر إلى ضبة: أن يخرج إليه، فبعث به أبو موسى، فلما قدم ضبة المدينة على عمر رضي الله عنه، فقال الحاجب: ضبة العنزي بالباب، فأذن له، فلما دخل عليه قال: لا مرحبًا بضبة، ولا أهلاً. قال ضبة: أما المرحب فمن الله. وأما الأهل فلا أهل ولا مال، فبم استحللت إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبت، ولا شيء أتيت؟ قال: ما الذي شجر بينك وبين عاملك؟ قلت: الآن أخبرك يا أمير المؤمنين - إنه كان إذا خطب حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي r، ثم ثنى يدعو لك، فغاضبني ذلك منه وقلت: أين أنت من صاحبه تفضله عليه؟ فكتب إليك يشكوني. قال: فاندفع عمر رضي الله عنه باكيًا وهو يقول: أنت والله أوفق منه وأرشد منه، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك؟ قلت: غفر الله لك يا أمير المؤمنين، ثم اندفع باكيًا يقول: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر، وآل عمر، فهل لك أن أحدثك بيومه وليلته؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال:
أما ليلته؛ فإن رسول الله r لما خرج من مكة هاربًا من المشركين، خرج ليلاً فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه، ومرة خلفه، ومرة عن يمينه، ومرة عن يساره، فقال له رسول الله r : ما هذا يا أبا بكر، ما أعرف هذا من فعلك؟ فقال: يا رسول الله r أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك. فمضى النبي r على أطراف أطابعه حتى حفيت، فلما رأى أبو بكر رضي الله عنه أنها حفيت حمله على عاتقه حتى أتى به فم الغار، فأنزله. ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله، فإن كان فيه شيء فبي، فدخل فلم ير شيئًا يستريبه فحمله فأدخله، فلما دخل وجد الصديق أجحار الأفاعي، فلما رأى أبو بكر ذلك ألقمه عقبة فجعلن يلسعنه ويضربنه، وجعلت دموعه تتحادر على خده من ألم ما يجد، ورسول الله r يقول: لا تحزن إن الله معنا؛ فأنزل الله سكينته وطمأنينته على أبي بكر فهذه ليلته.
وأما يومه: فلما توفي النبي r ارتدت العرب فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي، وقال بعضهم نزكي ولا نصلي. فأتيته ولا آلوه نصحًا. فقلت: يا خليفة رسول الله تألف الناس وأرفق بهم. فقال لي: أجبار في الجاهلية، وخوار في الإسلام؟! قبض رسول الله r وارتفع الوحي، والله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله r لقاتلتهم عليه. فكان والله رشيد الأمر، ثم كتب إلى أبي موسى يلومه. وحديث ضبة هذا من أشهر الأحاديث()().
خلافة الصديق
الصديق خلف الرسول r وهو أحق بخلافته ()
الخليفة:
الخليفة هو الذي يخلف غيره، وإن لم يستخلفه هذا هو المعروف في اللغة وقول الجمهور. وقد يكون بمعنى من استخلفه غيره.
والخليفة لا يصير خليفة إلا مع مغيب المستخلف أو موته. ولهذا لا يصلح أن يقال: إن الله يستخلف أحدًا عنه؛ فإنه حي قيوم، مدبر لعباده، منزه عن الموت والنوم والغيبة. والله يوصف بأنه يخلف العبد، كما قال النبي r: «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل»(). وقال في حديث الدجال: «والله خليفتي على كل مسلم»(). وكل من وصفه الله بالخلافة في القرآن فهو خليفة عن مخلوق كان قبله، كقوله: }ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ{(). }وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ{().
}وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ{(). وكذلك قوله: }إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً{(). أي عن خلق كان في الأرض قبل ذلك: كما ذكره المفسرون وغيرهم. وأما ما يظنه طائفة من الاتحادية وغيرهم: أن الإنسان خليفة الله فهذا جهل وضلال، ولهذا لما قالوا لأبي بكر: يا خليفة الله! قال: لست خليفة الله؛ بل خليفة رسول الله، وحسبي ذلك ().
خلافة الصديق حق وصواب بالنصوص والإجماع
خلافة الصديق: دلت النصوص الكثيرة على أنها حق وصواب، وهذا مما لم يختلف العلماء فيه. واختلفوا: هل انعقدت بالنص الذي هو العهد كخلافة عمر، أو بالإجماع والاختيار؟().
التحقيق في خلافة أبي بكر، وهو الذي يدل عليه كلام أحمد: أنها انعقدت باختيار الصحابة ومبايعتهم له، وأن النبي r أخبر بوقوعها على سبيل الحمد لها، والرضا بها، وأنه أمر بطاعته وتفويض الأمر إليه، وأنه دل الأمة وأرشدهم إلى بيعته. فهذه الوجوه الثلاثة -الخبر، والأمر، والإرشاد- ثابتة عن النبي r.
وهذه الوجوه الثلاثة الثابتة بالسنة دل عليها القرآن ()().
الوجه الأول: الخبر بوقوعها على سبيل
الحمد لها والرضا بها
1- قوله في الحديث الصحيح: «رأيت كأني أنزع على قليب فأخذها ابن أبي قحافة فنزع ذنوبًا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف () والله يغفر له؛ ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت غربًا، فلم أر عبقريًا من الناس يفري فرية حتى ضرب الناس بطعن»() فأخبر بأمور تستلزم صلاح الولاة، وهذه وقعت في خلافة أبي بكر وعمر ().
2- وفي سنن أبي داود وغيره من حديث الأشعث، عن الحسن، عن أبي بكرة، أن النبي r قال: «من رأى منكم رؤيا. فقال رجل: أنا رأيت كأن ميزانًا أنزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ثم وزن عمر وأبي بكر، فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر، ثم رفع الميزان، فرأيت الكراهية في وجه النبي r»().
ورواه أيضًا من حديث حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جعدان، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه مثله. ولم يذكر الكراهية «فاستاء لها النبي r» يعني فساءه ذلك فقال: «خلافة نبوة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء»(). فبين النبي r أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة، ثم بعد ذلك ملك، وليس فيه ذكر علي؛ لأنه لم يجتمع الناس في زمانه، بل كانوا مختلفين لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك ().
3- ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله r في مرضه: «ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب لأبي بكر كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر»(). فبين r أنه يريد أن يكتب كتابًا خوفًا، ثم علم أن الأمر واضح ظاهر ليس مما يقبل النزاع فيه فترك ذلك، لعلمه بأن ظهور فضيلة أبي بكر واستحقاقه لهذا الأمر يغني عن العهد.
4- وفي صحيح البخاري: «أنَّ عائشة رضي الله عنها لما قالت: وا رأساه، قال رسول الله r: بل أنا وا رأساه، لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون، ثم قلت: يأبى الله ويدفع المؤمنون، أو يدفع الله ويأبى المؤمنون»().
وهذا الحديث الصحيح فيه همه بأن يكتب لأبي بكر كتابًا بالخلافة لئلا يقول قائل: أنا أولى. ثم قال: «يأبى الله ذلك والمؤمنون» فلما علم الرسول أن الله تعالى لا يختار إلا أبا بكر والمؤمنون لا يختارون إلا إياه اكتفى بذلك عن الكتاب، ولم تكن كتابة الكتاب مما أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت، لأن أمته إذا ولته طوعًا بغير إلزام وكان هو الذي يرضاه الله ورسوله كان أفضل للأمة، ودل على علمها ودينها؛ فإنها لو ألزمت به لربما قيل إنها أكرهت على الحق وهي لا تختاره، كما كان يجري ذلك لبني إسرائيل، ويظن الظان أنه كان في الأمة بقايا جاهلية من التقديم بالأنساب، فكان ما اختاره الله لنبيه أفضل، ولهم أفضل، فالحمد لله الذي هدى هذه الأمة، وعلى أن جعلنا من أتباعهم، وأبعد الله من لا يختار ما اختاره الله ورسوله والمؤمنون ().
5- روى أبو داود أيضًا من حديث ابن شهاب، عن عمرو بن أبان، عن جابر أنه كان يحدث أن رسول الله r قال: «أري الليلة رجل صالح كأنا أبا بكر نيط برسول الله r، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر» قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله r قلنا: أما الرجل الصالح فرسول الله r، وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه r ().
6- وروى أيضًا من حديث حماد بن سلمة، عن أشعث بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن سمرة بن جندب «أن رجلاً قال يا رسول الله إني رأيت كأن دلوًا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربًا ضعيفًا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان، فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها فانتشطت وانتضح عليه منها شيء»().
7- وعن سعيد بن جهمان، عن سفينة، قال: قال رسول الله r: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله الملك من يشاء، أو ملكه من يشاء»(). قال سعيد: ثم قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر سنتين، وخلافة عمر عشر، وخلافة عثمان اثنتي عشرة، وخلافة علي ست سنين. قال سعيد: قلت لسفينة: إن هؤلاء يزعمون أن عليًا ليس بخليفة. فقال: كذبت إستاه بني الزرقاء -يعني: بني مروان-().
الوجه الثاني: الأمر بطاعته وتفويض الأمر إليه
1- في السنن عنه r أنه قال: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر، وعمر»().
فأمره بالاقتداء بعده بأبي بكر وعمر دليل على خلافتهما بعده، ولهذا كان أحد قولي العلماء وهو إحدى الروايتين عن أحمد أن قولهما إذا اتفقا حجة لا يجوز العدول عنها. ولو كانا ظالمين لم يأمر بالاقتداء بهما، فإنه لا يأمر بالاقتداء بالظالم، فإن الظالم لا يكون قدوة يؤتم به بدليل قوله تعالى: }لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ{() فلما أمر بالاقتداء بمن بعده والاقتداء هو الائتمام مع إخباره أنهما يكونان بعده دل على أنهما إمامان بعده، وهذا هو المطلوب. ومرتبة المقتدي به في أفعاله وفي سنته للمسلمين فوق مرتبة المتبع فيما سنه فقط. والفرق بينه وبين أصحابي كالنجوم مع أنه لا يصح، ليس فيه لفظ بعدي وليس فيه الأمر بالاقتداء بهم ().
2- «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»()، فأمر باتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين، وجعل خلافتهم إلى مدة معينة، فدل ذلك على أن المتولي في تلك المدة هم الخلفاء الراشدون، فإنهم خلفوه في ذلك، فانتفى عنهم بالهدى الضلال، وبالرشد الغي، وهذا هو الكمال في العلم والعمل.
فإن الضلال عدم العلم، والغي اتباع الهوى، ولهذا الأظهر أن اتفاق الخلفاء الأربعة حجة لا يجوز خلافه لأمر النبي r باتباع سنتهم ().
3- في الصحيحين عن جبير بن مطعم، عن أبيه، أن امرأة سألت النبي r شيئًا فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ - قال أبي: كأنها تعني الموت - قال فإن لم تجديني فأتي أبا بكر().
4- وحديث «إذا لم تجدوه أعطوها أبا بكر»() فأمره من يأتيه أن يأتي بعد موته شخصًا يقوم مقامه يدل على أنه خليفة بعده. وهذا وقع لأبي بكر ().
الوجه الثالث: دلالته الأمة وإرشادها إلى بيعته
1- في صحيح مسلم: أن أصحاب محمد r كانوا معه في سفر فذكر الحديث وفيه: «إن يطع القوم أبا بكر وعمر يرشدوا»().
2- استخلافه في الصلاة، وهو متواتر ثابت في الصحاح والسنن والمسانيد من غير وجه كما أخرج البخاري ومسلم، وابن خزيمة، وابن حبان وغيرهم من أهل الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، قال : « مرض النبي r فاشتد مرضه ، فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس، قالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إن أبا بكر رجل رقيق متى يقوم مقامك لا يستطيع أن يصلي بالناس. قال: مري أبا بكر فليصل بالناس، فعادوت، فقال: مري أبا بكر فليصل بالناس فإنكن صواحب يوسف، فأتاه الرسول فصلى بالناس في حياة النبي r»() وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما ثقل رسول الله r جاء بلال يؤذنه بالصلاة فقال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» فقلت يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف () وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر. فقالت له: فقال رسول الله r: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس. قالت: فأمروا أبا بكر يصلي بالناس»().
فصلى بهم مدة مرضه r من يوم الخميس إلى يوم الخميس إلى يوم الاثنين، فكان مدة مرضه فيما قيل اثني عشر يومًا، وكانت حجرته r إلى جانب المسجد. ففي هذا أنها راجعته، وأمرت حفصة بمراجعته، وأن النبي r لامهن على هذه المراودة، وجعلها من المراودة على الباطل، كمراودة صواحب يوسف ليوسف، فدل هذا على تقديم غير أبي بكر في الصلاة من الباطل الذي يذم من يراود عليه، هذا مع أن أبا بكر قد قال لعمر يصلي فلم يتقدم عمر، وقال: أنت أحق بذلك، فكان في هذا اعتراف عمر له أنه أحق بذلك منه، كما اعترف له أنه أحق بالخلافة منه ومن سائر الصحابة. وأنه أفضلهم ().
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لقد راجعت رسول الله r في ذلك، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلاً قام مقامه أبدًا، فأردت أن يعدل ذلك رسول الله r عن أبي بكر ().
وكشف الستارة يوم مات وهم يصلون خلف أبي بكر فسر بذلك ففي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن أبا بكر كان يصلي لهم في وجع رسول الله r في وجعه الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله r ستر الحجرة فنظر إلينا وهو قائم كأن وجهه ورقة مصحف()، ثم تبسم رسول الله r ضاحكًا، قال فبهتنا ونحن في الصلاة من فرح بخروج رسول الله r، ونكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن رسول الله r خارج للصلاة، فأشار إليهم رسول الله r بيده أن أتموا صلاتكم. ثم دخل رسول الله r فأرخى الستر، قال: فتوفي رسول الله r من يومه ذلك().
وخرج النبي r مرة فصلى بهم جالسًا وبقي أبو بكر يصلي بأمره سائر الصلوات ففي الصحيح عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: «دخلت على عائشة، فقلت لها: ألا تحدثيني عن مرض رسول الله r؟ قالت: بلى، ثقل النبي r فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا وهم ينتظرونك يا رسول الله. قال: ضعوا لي الماء في المخضب() ففعلنا، فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا ينتظرونك يا رسول الله. قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله r لصلاة العشاء الآخرة، قالت: فأرسل رسول الله r إلى أبي بكر أن يصلي بالناس، فأتاه الرسول، فقال: إن رسول الله r يأمرك أن تصلي بالناس. فقال: أبو بكر وكان رجلاً رقيقًا: يا عمر صل بالناس. قال فقال عمر: أنت أحق بذلك. قالت: فصلى بهم أبو بكر تلك الأيام، ثم إن رسول الله r وجد من نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي r أن لا يتأخر، وقال لهما: أجلساني إلى جنبه، فأجلساه إلى جنب أبي بكر، وكان أبو بكر يصلي وهو قائم بصلاة رسول الله r، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، والنبي r قاعد. قال عبيد الله: فدخلت على عبد الله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ما حدثتني عائشة عن مرض رسول الله r ؟ فقال: هات. فعرضت حديثها عليه، فما أنكر منه شيئًا، غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس؟ قلت: لا. قال: هو علي»().
فهذا حديث اتفقت فيه عائشة وابن عباس كلاهما يخبران بمرض النبي r واستخلاف أبي بكر في الصلاة، وأنه صلى بالناس قبل خروج النبي r أيامًا، وأنه لما خرج لصلاة الظهر أمره أن لا يتأخر بل يقيم مكانه وجلس النبي r إلى جنبه، والناس يصلون بصلاة أبي بكر، وأبي وبكر يصلي بصلاة النبي r، والعلماء كلهم متفقون على تصديق هذا الحديث وتلقيه بالقبول، وتفقهوا في مسائل فيه. وكان قد استخلفه في الصلاة قبل ذلك لما ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم. ولم ينقل أن النبي r استخلف في غيبته على الصلاة في حال سفره وفي حال غيبته في مرضه إلا أبا بكر، ولكن عبد الرحمن بن عوف صلى بالمسلمين مرة صلاة الفجر في السفر عام تبوك؛ لأن النبي r قد ذهب ليقضي حاجته فتأخر ()().
3- وفي الترمذي مرفوعًا: «لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره»().
4- ومثل قوله في الحديث الصحيح على منبره: «لو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، لا يبقى في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكر»().
والقائلون بالنص الجلي استدلوا على ذلك باتفاق الصحابة على تسميته خليفة رسول الله r (), قالوا: والخليفة إنما يقال لمن استخلفه غيره، واعقدوا بأن الفعيل بمعنى المفعول فدل ذلك على أن رسول الله r استخلفه على أمته، وقالت طائفة: الخليفة يقال لمن استخلفه غيره ولمن خلف غيره فهي فعيل بمعنى فاعل. وهذان الوصفان لم يثبتا إلا لأبي بكر، فكان هو الخليفة.
قال الشيخ رحمه الله: وأهل السنة يقولون خلفه، وكان هو أحق بخلافته ().
دلالة القرآن على خلافة الصديق
وهذه الوجوه الثلاثة الثابتة بالسنة() دل عليها القرآن:
فالأول في قوله تعالى: }وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ{ الآية ()، وقوله: }فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ{() وقوله: }وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ{().
والثاني قوله: }سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُول